ما فرص نجاح حكومة «الدعم السريع» وحلفائها في ضوء تجارب الإقليم والعالم؟

سياسي

 

19 يونيو 2025 – وسط رفض دولي وإقليمي وتشديد على ضرورة الحفاظ على سيادة مؤسسات السودان، وتحذير من أن تؤدي هذه التحركات إلى تقسيم البلاد، وقّعت قوات الدعم السريع وحلفاؤها من القوى السياسية والحركات المسلحة في العاصمة الكينية نيروبي، في 22 فبراير الماضي، على ميثاق سياسي قالت إنه يمهّد لتشكيل حكومة في مناطق سيطرتها.

وأعلن المشاركون أن الحكومة الجديدة ستُشكَّل «من داخل السودان خلال أسابيع»، وتسعى للحصول على شرعية دولية لتمثيل البلاد، وفقًا لتصريحات رئيس حركة/ جيش تحرير السودان – المجلس الانتقالي وعضو مجلس السيادة السابق الهادي إدريس الذي وصفها بأنها «الشرعية الوحيدة» وليست «موازية».

الحكومة السودانية، من جانبها، هاجمت الخطوة، واصفةً إياها بـ«المؤامرة»، فيما اتهم المتحدث الرسمي باسمها خالد الإعيسر الموقعين على الميثاق السياسي بـ«الانسياق وراء أجندة خارجية»، في إشارة إلى اتهامات سابقة للإمارات بدعم قوات الدعم السريع، والتي تنفيها أبوظبي باستمرار.

وأثارت استضافة كينيا للحدث غضب الحكومة السودانية التي اتهمت رئيسها ويليام روتو بـ«التورط في تعميق الأزمة»، في وقت تُواصل فيه قوات الجيش السوداني تحقيق تقدم ميداني، بالسيطرة على كامل العاصمة الخرطوم. كما استدعت الحكومة السودانية سفيرها من نيروبي، وشكلت لجنةً خاصة للتعامل مع الأزمة، فيما أعلنت الخارجية السودانية عن «إجراءات تصحيحية» –غير مفصلة– لاستعادة التوازن.

وتُعرَّف الحكومات الموازية بأنها كيانات إدارية أو سياسية تُعلن نفسها ممثلةً شرعيةً للدولة، أو تحكم فعليًّا أجزاءً من إقليمها، في موازاة حكومةٍ رسميةٍ معترف بها دوليًّا. 

ولا تقتصر خطورة الحكومات الموازية على الجانب السياسي فحسب، بل تمتد إلى مفاقمة الأزمات الإنسانية؛ ففي ظل انقسام السلطة، تتدهور الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم، وتنهار البنى التحتية، وتتضاعف معاناة المدنيين الذين يتحولون إلى وقودٍ للصراع. وكذلك، على الصعيد الدولي، تثير الحكومات الموازية إشكالاتٍ قانونية وأخلاقية بشأن مفهوم السيادة، مثل الأحقية في تمثيل الدولة في الأمم المتحدة.

يستعرض هذا التقرير نماذجَ من ليبيا واليمن وسوريا وميانمار، ويحلّل كيف تشكّلت حكوماتها الموازية، والآثار التي خلّفتها على الصعيدين المحلي والدولي.

ليبيا

في بداية فبراير 2011، انطلقت احتجاجات في شرق ليبيا على اعتقال المحامي المدافع عن حقوق الإنسان فتحي تربل، وسرعان ما تحولت إلى المطالبة بنهاية لحكم معمر القذافي الذي كان على بعد أشهر معدودة من إكمال عامه الثاني والأربعين في رئاسة ليبيا.

تحولت المظاهرات التي انتشرت في عدد من مدن ليبيا إلى مواجهات عنيفة بين الثوار ونظام القذافي. ونتيجة ذلك، صدر قرار مجلس الأمن الدولي بالرقم 1970، في 26 فبراير 2011، بإجماع الأعضاء. وأدان القرار انتهاكات النظام ووصفها بأنها «جرائم ضد الإنسانية»، وفرَض عقوبات، شملت حظرًا على توريد الأسلحة إلى ليبيا، وتجميد أصول القذافي ومسؤولين كبار في الدولة، ومنع سفرهم، كما أحال الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وبعد أقل من شهر، صدر قرار من مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 1973، وأجاز فرض حظر جوي واتخاذ «كل التدابير الضرورية» لحماية المدنيين من قوات القذافي، مع استبعاد أيّ احتلال أجنبي، وشمل تفويضًا بعمليات عسكرية لفرض الحظر الجوي، وتشديد حظر الأسلحة والعقوبات، وأكد إحالة الأزمة إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومهد القرار لضربات حلف الناتو الجوية التي ساهمت في الإطاحة بالنظام. وانتهت المرحلة الأولى من الصراع بمقتل القذافي في أكتوبر 2011 بمسقط رأسه «سرت»، بعد ضربة جوية فرنسية استهدفت موكبه، لتدخل البلاد في فراغ سلطوي ومعضلة بناء الدولة من الصفر.

انتقال واهن وحكومة عاجزة

تولى المجلس الوطني الانتقالي إدارة المرحلة الانتقالية، لكنه فشل في بناء مؤسسات فعّالة. وفي أغسطس 2012، سُلِّمت السلطة إلى المؤتمر الوطني العام (أول هيئة تشريعية منتخبة منذ عقود)، لكن التحديات فاقت قدراته، لا سيما بعد هجوم سبتمبر 2012 على القنصلية الأمريكية في بنغازي، والذي أودى بحياة السفير كريستوفر ستيفنز.

ظل المؤتمر الوطني العام في حالة جمود بين الإسلاميين وخُصومهم، وتصاعدت الاحتجاجات على تمديد المؤتمر ولايته من طرف واحد. وفي هذا السياق، عاد الجنرال المنشق خليفة حفتر إلى الواجهة في فبراير 2014 عبر دعوته إلى «إنقاذ ليبيا» والانتفاض ضد البرلمان المنتخب (المؤتمر الوطني العام)، ثم إطلاقه «عملية الكرامة» في مايو، بحجة تطهير بنغازي من الجماعات الإسلامية.

عملية الكرامة

في 16 مايو 2014، أطلقت قوات اللواء حفتر عملية عسكرية واسعة النطاق تحت اسم «عملية الكرامة»، مستهدفةً الميليشيات الإسلامية في بنغازي. وشملت العملية هجمات جوية وبرية مكثفة، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 70 شخصًا وإصابة أكثر من 250 آخرين. وتعهد حفتر بمواصلة العمليات حتى القضاء على الجماعات المتطرفة في المدينة.

وأتت تحركات حفتر في وقت سيطر فيه «أنصار الشريعة» وجماعات إسلامية أخرى على بنغازي ومناطق أخرى في الشرق، كما شنت حملة من الاغتيالات والتفجيرات التي استهدفت الجيش وأفراد الشرطة والموظفين العموميين ودبلوماسيين، ما جعل عمليات حفتر ضد الميليشيات الإسلامية تلقى دعمًا من قادة الجيش الذين رأوا أن السلطات المركزية لم تفعل الكثير لحمايتهم وحماية البلاد.

الانتخابات والانقسام السياسي

وسط اشتباكات مسلحة وبمشاركة ضعيفة، أجريت انتخابات برلمانية في يونيو 2014، أسفرت عن فوز تحالف القوى الوطنية، وتشكل بناءً على نتيجتها مجلس النواب الذي فرّ مدعومًا من حفتر وقواته إلى «طبرق» شرقًا تحت ضغط ميليشيات «فجر ليبيا» الموالية للمؤتمر الوطني العام المنحل الذي أعاد تشكيل حكومة موازية في طرابلس. وفي نوفمبر 2014، أعلنت محكمة طرابلس الخاضعة لميليشيات «فجر ليبيا» بطلان شرعية مجلس النواب.

 

وبحلول 2016، ظهرت حكومة الوفاق الوطني بموجب الاتفاق السياسي الليبي الموقع عليه في «الصخيرات» بالمغرب، في ديسمبر 2015، والذي أقرّه مجلس الأمن الدولي، وبدأت العمل في طرابلس في مارس 2016، عبر وساطة أممية، ضمن حل توافقي، لكنها واجهت رفضًا من حفتر الذي حافظ على سيطرته على شرقي ليبيا وأجزاء من الجنوب.

لم يشكّل خليفة حفتر حكومة معترف بها دوليًا أو يعلن عن سلطة سياسية مركزية في ليبيا. وبدلًا من ذلك، ركز على تعزيز نفوذه العسكري والإداري في المناطق الخاضعة لسيطرته من خلال تعيين مسؤولين في مناصب أمنية وعسكرية وإدارية.

وفي يوليو 2017، شهدت ليبيا تصعيدًا جديدًا في الخلاف بين حفتر وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا في طرابلس، بعد إعلان الأخير تعيينات عسكرية وأمنية جديدة. وردًا على ذلك، أصدر حفتر أمرًا عسكريًا يمنع مسؤولي حكومة الوفاق من العمل في المناطق الخاضعة لسيطرته، وعدّ هذه التعيينات «اختراقًا للأمن القومي»، واتهم حكومة السراج بالتبعية لـ«الإخوان المسلمين والإرهابيين».

وشدد حفتر على تطبيق القرار حتى باستخدام القوة، خاصةً فيما يتعلق بالتعيينات في المؤسسات الأمنية والعسكرية. وبرر حفتر سابقًا تسامحه مع وجود وزارات خدمية، كالصحة والتعليم، في مناطق سيطرته، لكنه رأى في التعيينات الأمنية الجديدة تهديدًا لمنظومة الأمن العسكري.

وتحولت ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مكثف منذ العام 2014، إذ تداخلت المصالح الخارجية مع الانقسامات الداخلية، مما عمق الأزمة وزاد من حدتها. ودعمت روسيا والإمارات العربية المتحدة ومصر قوات خليفة حفتر. وفي المقابل، وقفت تركيا وقطر إلى جانب حكومة الوفاق الوطني.

انهيار اقتصادي ومعاناة المدنيين

 

أغرَق الانقسام السياسي في ليبيا البلاد في كارثة إنسانية تجلّت في الحياة المدنية. وأدت الاشتباكات المسلحة المستمرة بين الفصائل الموالية للطرفين إلى تآكل الأمن، مما فتح الباب أمام انتشار العنف والخطف والسرقات المسلحة. وتحولت مدن، مثل «سرت» و«بنغازي»، إلى ساحات حرب، نزح على إثرها مئات الآلاف من المدنيين، فيما دُمِّرت البنى التحتية الحيوية. واستغلت الجماعات الإرهابية، مثل فلول تنظيم «داعش»، هذه الفوضى لإعادة تنظيم صفوفها في المناطق الجنوبية، مما زاد من خطر تعرُّض المدنيين للهجمات، وعقّد جهود مكافحة الإرهاب.  

وفي الوقت نفسه، انهارت الخدمات الأساسية، إذ عانت المستشفيات من نقص حاد في الأدوية والمعدات، وتوقفت المدارس في مناطق الصراع، فيما تضرب انقطاعات الكهرباء ونقص المياه المدن المكتظة. وازدادت الأزمة الاقتصادية حدةً مع انهيار قيمة الدينار الليبي، وتوقف إنتاج النفط بسبب الحصار على الموانئ، وارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 30%، مما فاقم الفقر وقلص القدرة الشرائية للأسر.  

تسبب الانقسام أيضًا في شرخ اجتماعي عميق، مع تصاعد الخطابات الطائفية والانقسامات القبلية والجهوية، وفقدان الثقة في مؤسسات الحكم لمصلحة سيطرة الميليشيات. ويعيش أكثر من 400 ألف نازح داخليًا في مخيمات بلا خدمات أساسية، فيما يتعرض المهاجرون العابرون لليبيا للاستغلال من قبل عصابات الاتجار، بتواطؤ من جماعات محلية.

وأدى الهجوم على طرابلس في أوائل العام 2019 والحصار المفروض على الموانئ والمحطات النفطية الرئيسية في البلاد في يناير 2020 إلى أخطر أزمة سياسية واقتصادية وإنسانية تواجهها ليبيا منذ العام 2011، وكان الأثر الاقتصادي محسوسًا على نحو واضح في 2019، إذ تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي على نحو حاد إلى 2.5%، مع تصاعد المواجهات العسكرية، وانخفض إنتاج النفط من 1.2 مليون برميل يوميًا في ديسمبر 2019 إلى 0.1 مليون برميل يوميًا في أبريل 2020.

اليمن

يشهد اليمن منذ العام 2014 حربًا أصبحت إحدى أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم. وبدأت الحرب عندما تمكنت جماعة الحوثيين من السيطرة على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، بعد أشهر من الاحتجاجات ضد حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي. وجاء هذا التصعيد في سياق مضطرب يعود إلى الثورة اليمنية في العام 2011، والتي كانت جزءًا من موجة «الربيع العربي»، وأدت إلى إطاحة الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعد حكم دام ثلاثة عقود. ومع ذلك، لم تنجح الفترة الانتقالية التي تلت الثورة في تحقيق الاستقرار، إذ واجه الرئيس هادي تحديات كبيرة، بما في ذلك تمرد الحوثيين في الشمال واستياء واسع النطاق من الفساد والبطالة.

وتصاعدت الأحداث بسرعة في مطلع العام 2015، عندما توسع الحوثيون في السيطرة على مناطق واسعة من اليمن، مما دفع هادي إلى الفرار إلى عدن ثم إلى السعودية. وردًا على ذلك، شكلت المملكة العربية السعودية تحالفًا عسكريًا تحت قيادتها لدعم الحكومة اليمنية الشرعية، معلنةً في مارس 2015 بدء عملية «عاصفة الحزم» التي تضمنت حملة جوية مكثفة وفرض حصار بحري وجوي. وكان الهدف المعلن للتحالف استعادة الشرعية وإجبار الحوثيين على الانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها، لكن الحرب سرعان ما تحولت إلى طريق مسدود، مع تعقد المشهد بسبب تدخل أطراف إقليمية ودولية وتشظي الوضع الداخلي.

مع استمرار الحرب، برزت انقسامات جديدة داخل المشهد اليمني، لا سيما في الجنوب، حيث ظهرت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة من الإمارات العربية المتحدة، قوةً رئيسةً تطالب باستعادة دولة الجنوب التي كانت قائمةً قبل الوحدة اليمنية في العام 1990. وأدى ذلك إلى مواجهات مسلحة بين القوات الموالية لهادي وتلك التابعة للمجلس الانتقالي، لا سيما في عدن، مما فاقم تعقيد الصراع، وحوّله من مواجهة ثنائية إلى حرب متعددة الأطراف. وفي خضم هذا التشظي، حاولت دول التحالف إدارة تحالفات متضاربة، وفيما دعمت السعودية الحكومة المعترف بها دوليًا، قدمت الإمارات الدعم للمجلس الانتقالي وقوات محلية أخرى في مواجهة تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية.

منذ البداية، كانت الآثار الإنسانية للحرب مروعة. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يحتاج أكثر من 24 مليون يمني –أي نحو 80% من السكان– إلى مساعدة إنسانية عاجلة، في حين يعيش الملايين على حافة المجاعة. وزاد تفشي الأمراض، مثل الكوليرا الذي أصاب مئات الآلاف، من معاناة المدنيين، لا سيما مع تدمير البنية التحتية الصحية وتدهور الخدمات الأساسية. وأدى الحصار المفروض من قبل التحالف، والذي حد من دخول الإمدادات الغذائية والدوائية، إلى تفاقم الأزمة. فيما استهدفت الغارات الجوية للتحالف مواقع مدنية على نحو متكرر، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والأسواق، مما خلف آلاف الضحايا من المدنيين.

وعلى الصعيد الدولي، اتُهمت إيران بدعم الحوثيين عسكريًا وسياسيًا، وهو ما نفته طهران مرارًا، فيما واجه التحالف السعودي انتقادات دولية واسعة بسبب الضربات الجوية التي أسفرت عن سقوط مدنيين، بالإضافة إلى اتهامات باستخدام أسلحة محظورة. ومن جانب آخر، دعمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التحالف عبر توريد الأسلحة والمساعدات الاستخباراتية، متجاهلةً الضغوط المتزايدة من منظمات حقوقية لوقف هذه المبيعات. وفي المقابل، حاولت الأمم المتحدة الاضطلاع بدور الوسيط، وقدمت عدة مبادرات لوقف إطلاق النار، لكن معظمها فشل بسبب انتهاكات من جميع الأطراف وعدم توافر إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الصراع.

وشهدت السنوات اللاحقة محاولات متكررة لإحلال السلام، أبرزها اتفاق ستوكهولم في العام 2018، والذي نص على وقف إطلاق النار في «الحديدة»، الميناء الحيوي الذي يسيطر عليه الحوثيون، لكن التطبيق الفعلي للاتفاق ظل هشًا. وفي الوقت نفسه، أدت الاغتيالات السياسية، مثل مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح في العام 2017 بعد انقلابه على تحالفه مع الحوثيين، إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار. وبحلول العام 2022، تشكّل مجلس رئاسي جديد بدعم من السعودية لقيادة الحكومة المعترف بها دوليًا، لكن النفوذ الفعلي ظل محدودًا أمام سيطرة الحوثيين على صنعاء وأجزاء كبيرة من الشمال.

واليوم، ما تزال الحرب مستعرة رغم التراجع النسبي للعمليات العسكرية المكثفة. وفي حين يسيطر الحوثيون على العاصمة والمناطق الشمالية، تتمركز الحكومة في عدن، ويعاني الجنوب من صراعات داخلية بين القوى المحلية. وتدهور الاقتصاد اليمني على نحو كارثي، مع انهيار العملة المحلية وتوقف رواتب العاملين، مما دفع الملايين إلى الاعتماد الكلي على المساعدات الدولية.

ميانمار

كيف تكونت الحكومات الموازية في ميانمار؟ 

عانت ميانمار عدم الاستقرار السياسي منذ استقلالها عن بريطانيا في يناير 1948. وتوالت أشكال مختلفة للحكم، بما فيها حكومات انتقالية مؤقتة، أعقبتها حكومة مدنية في العام 1960، وانتهى المطاف بميانمار إلى حكم عسكري دام 26 عامًا إثر انقلاب عسكري. 

وتدهورت الأحوال الاقتصادية في البلاد، واندلعت احتجاجات واسعة في العام 1988، أطلق عليها اسم «انتفاضة 8888»، والتي قادت إلى تنحي «ني وين» الرئيس في تلك الفترة. كما أدت الانتفاضة إلى تشكيل مجلس دولة لاستعادة القانون والنظام من قبل كبار قادة الجيش، أعقبتها انتخابات حرة في العام 1990، انتهت بفوز حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية»، لكن رفض الجيش تسليم السلطة، ووضَع مؤسِّسة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» أون سان سو تشي قيد الإقامة الجبرية. وظلّ الجيش بعدها في السلطة لاثنين وعشرين عامًا، وأفضت الانتخابات في العام 2015 إلى فوز حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية»، مع احتفاظ الجيش بسلطات كبيرة داخل الحكومة المنتخبة.

وخلّف الانقلاب العسكري في ميانمار في الأول من فبراير 2021 هيكلًا سلطويًا متشظيًا، إذ عُزل الأعضاء المنتخبون للحكم من قبل جيش ميانمار «تاتمادو». كما أُعلن عن قانون الطوارئ لمدة عام عقب الانقلاب. وأعلن القائد العام  للقوات المسلحة مين أونغ هلاينغ  –الذي نُقلت إليه السلطة– عن بطلان الانتخابات العامة في نوفمبر 2020. واُعتقل الرئيس المنتخب ومستشارة الدولة، إلى جانب الوزراء وأعضاء برلمان حكومة حزب الرابطة الوطنية في اليوم السابق لأدائهم اليمين الدستورية. كما وجهت تُهم إلى بعضهم بخرق قيود جائحة «كوفيد–19» واستيراد أجهزة الراديو والاتصالات بطريقة غير قانونية. 

وانطلقت حملات منددة بالانقلاب، كما شهدت ميانمار حملة عصيان مدني وطنية من قبل العاملين في مجال الرعاية الصحية والموظفين المدنيين. وسرعان ما ووجهت هذه الحملات والمظاهرات بقوة عسكرية باطشة، منها استخدام الأسلحة وفرض حظر التجوال وقطع خطوط الإنترنت وغيرها. 

وعقد سياسيون منتخبون من حزب الرابطة الوطنية جلسة برلمانية بعد أربعة أيام من الانقلاب، وصرحوا بأنهم الحكومة الشرعية الوحيدة، وأعلنوا عن تشكيل برلمان ضم أكثر من 300 منتخب من أطياف سياسية مختلفة. وفي 31 مارس 2021، أعلن البرلمان عن إلغاء دستور 2008 الذي صاغه الجيش، وعن خطط لميثاق فيدرالي جديد، في محاولة لإقناع الجماعات العرقية المسلحة بسناح الفرصة لبناء النظام الفيدرالي الذي ناضلوا من أجله طويلًا.

وعيّن البرلمان حكومة متنوعة عرقيًا، تحت اسم حكومة «الوحدة الوطنية»، تضم وزراء وممثلين في الولايات الأمريكية المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وجمهورية التشيك وأستراليا وجنوب كوريا.

ومع تزايد الحركات المعارضة المسلحة، أعلنت الحكومة الموازية عن تشكيل جيش قوات الدفاع الشعبي ليضم جميع هذه الحركات، كما بدأت في شن حرب دفاعية ضد جيش «تاتمادو». 

وانضم إلى النزاع «جيش أراكان» ليشكل تحالف الإخوة الثلاث، والذي يضم «جيش أركان» و«جيش التحالف الديمقراطي الوطني لميانمار» و«جيش تحرير تانغ الوطني»، وغيرها من جماعات ومنظمات عرقية مسلحة برزت لتنسيق عملياتها ضد المجلس العسكري للتأثير عليه سلبيًا.

الوضع الإنساني في ميانمار

ابتداءً من الرابع من مارس 2025، ووفقًا لـبيانات جمعية مساعدة السجناء السياسيين البورمية، تُحقق من مقتل 6,378 مدنيًا على يد المجلس العسكري، بما في ذلك 735 طفلًا، بالإضافة إلى اعتقال 28,732 شخصًا لمشاركتهم في أنشطة مناهضة للانقلاب، ونحو 21,958 ما يزالون محتجزين لدى السلطات العسكرية، مع أنه وُجّهت تُهم أو حُكم على 10,501 فقط. 

وبذل الجيش جهودًا حثيثة لقطع تدفق الأموال للجماعات المناهضة له، مما أثر بدرجة كبيرة في قطاع العون الإنساني على الصعيدين المحلي والدولي. فيما دفعت المراقبة الموضوعة على القطاع المصرفي العديد من المنظمات إلى استخدام حلول بديلة لضمان استمرارية المشاريع، مما زاد التكلفة والمخاطر على حد سواء.

كيف جمعت المعارضة أموالها؟ 

اعتمدت المعارضة على جمع التبرعات من داخل ميانمار وخارجها لتمويل شراء الأسلحة وتقديم الخدمات، مثل الصحة والتعليم، في مناطق سيطرتها، وتقديم العون الإنساني للنازحين داخليًا. وتقلّصت هذه التبرعات نظرًا إلى الفتور المالي الذي أصاب المتبرعين والوضع الاقتصادي العالمي، لكنها مكنت هذه الجماعات المسلحة من تحديث أنواع الأسلحة المستعملة. 

واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، بكثافة، لضمان شفافية بنود صرف التبرعات وجذب مزيدٍ من المتبرعين، إذ نشرت المجموعات المسلحة صورًا للأسلحة وأخرى توثق نصب الكمائن والعمليات على الأرض. كما نُشرت على منصة «فيسبوك» تفاصيل الحسابات المستخدمة لتلقي التبرعات، مما أثار حفيظة النظام وأدى إلى تضييق الخناق على التحويلات المصرفية. 

واستندت الحكومة الموازية كذلك إلى تحويلات المقيمين في الخارج والتي تعد أهم مصدر لهذه التبرعات، كما بنيت العديد من المنصات الرقمية لجمع التبرعات، مثل تطبيق الأموال عبر الهاتف المحمول –كيات الرقمية– المبني على تقنية سلسلة الكتل –Blockchain– الذي أطلقته وزارة التخطيط التابعة للحكومة الموازية. وكثفت هذه الجماعات المناهضة للجيش جهودها لتقليص عوائد الجيش باستمالة المجتمع الدولي لفرض العقوبات الموجهة ومقاطعة الشركات التابعة للمجلس العسكري.

وما يزال الصراع معقدًا في ميانمار مع تقدم الجماعات المناهضة للمجلس العسكري وسقوط مقارها في العمليات التي شنّها تحالف الإخوة الثلاث. 

كيف تعاملت دول الجوار والغرب مع الانقلاب؟ 

جاءت الاستجابة الدولية للانقلاب العسكري في ميانمار في العام 2021 منقسمة بين إدانة قوية من الديمقراطيات الغربية ونهج أكثر براغماتية من القوى الإقليمية. وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عقوبات، وأعادت توجيه المساعدات، ودعمت حكومة الوحدة الوطنية (NUG) المعارضة، في حين أعطت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الأولوية للحوار، إذ كان بعض أعضائها أكثر انتقادًا من الآخرين. وفي 7 أكتوبر 2021، ذهب البرلمان الأوروبي إلى أبعد من ذلك، واعترف رسميًا بحكومة الوحدة الوطنية بوصفها «الممثل الشرعي الوحيد لرغبات شعب ميانمار الديمقراطية»، ودعا «آسيان» والمجتمع الدولي إلى إشراكها في الحوار السياسي لإيجاد حل سلمي. ومن جانبها، حافظت الصين على علاقات إستراتيجية مع كل من المجلس العسكري والمعارضة، مركزةً على استقرار الحدود والمصالح الاقتصادية، في حين عززت روسيا العلاقات العسكرية مع المجلس العسكري وعارضت العقوبات. أما اليابان، فقد أدانت الانقلاب، لكنها تجنبت فرض عقوبات للحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية، فيما سعت الهند إلى تحقيق توازن بين الطرفين، مع التركيز على أمن الحدود ومواجهة النفوذ الصيني. وعلى الإدانات الواسعة، كان تأثير الإجراءات الدولية محدودًا في عكس مسار الانقلاب أو الحد من سيطرة المجلس العسكري.

سوريا

كيف تكونت الحكومات الموازية في سوريا؟

بدأت ظاهرة تكوين الحكومات الموازية في سوريا، على نحو واضح، خلال فترة الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 2011. ومع تصاعد النزاع وتراجع سيطرة الحكومة على بعض المناطق، ظهرت هياكل حكم بديلة في المناطق التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة. وكان أحد أبرز هذه الهياكل المجالس المحلية التي أُنشئت لتقديم الخدمات الأساسية للسكان، مثل إمدادات المياه والكهرباء، وتوزيع المساعدات الإنسانية، ودعم المستشفيات والمدارس المؤقتة. وفي بعض المناطق، تولت هذه المجالس أيضًا مهام الأمن من خلال تشكيل قوات شرطة مجتمعية.

وتشكّلت هذه المجالس بآليات مختلفة، بما في ذلك الاتفاق العام والانتخابات، وأحيانًا من خلال تعيينات أو جهود ناشطين محليين. وتمتعت هذه المجالس بشرعية مستمدة من السكان المحليين، وسعت إلى تلبية احتياجاتهم في ظل غياب الدولة المركزية. وعلى التحديات والصراعات الداخلية، نجحت بعض هذه المجالس في تقديم خدمات فعّالة وتحقيق درجة من الاستقرار في مناطقها.

ومنذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011، تشكلت العديد من الفصائل العسكرية المعارِضة التي اضطلعت بأدوار محورية في مسار الصراع ضد النظام السوري، كلٌّ منها بمرجعيته الإيديولوجية وتحالفاته الإقليمية والدولية. وكان «الجيش السوري الحر» من أوائل هذه الفصائل، وظهر كمظلة تجمع المنشقين عن الجيش النظامي إلى جانب مدنيين حملوا السلاح، وحظي بدعم واسع من دول غربية وعربية. ولاحقًا، أُعيد تنظيم بعض فصائل المعارضة ضمن «الجيش الوطني السوري» الذي أصبح القوة المهيمنة في مناطق شمال سوريا. وبرزت كذلك فصائل إسلامية كبرى مثل «حركة أحرار الشام» التي كانت لفترة من أكثر التنظيمات نفوذًا، مستفيدةً من دعم تركيا وقطر، قبل أن تتراجع بفعل الصراعات الداخلية والضغوط الإقليمية. أما «جبهة النصرة» التي أسّست في العام 2012 امتدادًا لتنظيم «القاعدة» في سوريا، فقد تحولت لاحقًا إلى «هيئة تحرير الشام»، وأعلنت عن فكّ ارتباطها بـ«القاعدة»، وسعت إلى تقديم نفسها بأنها «قوة محلية أكثر استقلالية»، لكنها ظلت الفصيل الأكثر نفوذًا في «إدلب» والمناطق المحيطة بها. 

وأسّست «قوات سوريا الديمقراطية» في العام 2015 بدعم أمريكي، وضمت في صفوفها مقاتلين أكرادًا وعربًا، واضطلعت بدور رئيس في هزيمة تنظيم «داعش»، لكنها ظلت محل نزاع مستمر مع تركيا التي تعدّها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني. ومع تعاقب السنين، تحولت خريطة النفوذ العسكري في سوريا عدة مرات، إذ اندمجت بعض الفصائل وانحلت أخرى، فيما بقيت مجموعات مثل «هيئة تحرير الشام» و«الجيش الوطني السوري» و«قسد» فاعلة حتى اليوم، مما يُبرز التعقيد المستمر للصراع السوري وتشابك المصالح الإقليمية والدولية فيه.

الوضع الإنساني في سوريا

أثر وجود هذه الحكومات الموازية والفصائل المسلحة في الوضع الإنساني في سوريا بدرجة كبيرة؛ فقد أدى تعدد الجهات المسيطرة إلى تعقيد إيصال المساعدات الإنسانية، وتعرض المدنيين لانتهاكات حقوق الإنسان من قبل مختلف الأطراف. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعيش ملايين السوريين في مناطق يصعب الوصول إليها، مما يزيد من معاناتهم.

الدعم الدولي في الصراع السوري:

شهدت الساحة السورية تباينًا واضحًا في الدعم الدولي المقدم إلى كل من النظام والمعارضة، مما أثر بدرجة كبيرة في مسار الصراع. واعتمد النظام السوري، بدرجة أساسية، على دعم حلفائه التقليديين، إذ قدمت إيران دعمًا عسكريًا مباشرًا عبر قوات «الحرس الثوري» ومقاتلي «حزب الله» اللبناني، بالإضافة إلى الدعم المالي واللوجستي. ومن جانبها، اضطلعت روسيا بدور حاسم من خلال تدخلها العسكري المباشر في العام 2015، حين شنت غارات جوية استهدفت معاقل المعارضة، مما ساهم في استعادة النظام للعديد من المناطق الإستراتيجية.

وفي المقابل، تلقت المعارضة السورية دعمًا متنوعًا من دول إقليمية وغربية. وكانت تركيا من أبرز الداعمين، إذ قدمت دعمًا لوجستيًا وعسكريًا لفصائل المعارضة، خاصةً «الجيش الوطني السوري». وكان لقطر دور ريادي في دعم المعارضة، سياسيًا وإعلاميًا، مستخدمةً منصاتها الإعلامية لتسليط الضوء على معاناة الشعب السوري وفضح انتهاكات النظام، مع رفضها المستمر لأيّ تطبيع مع نظام الأسد.

والسعودية أيضًا قدمت دعمًا ماليًا وعسكريًا لبعض فصائل المعارضة. وعلى الصعيد الدولي، قدمت دول، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، دعمًا سياسيًا ولوجستيًا للمعارضة، مع التركيز على دعم الفصائل المعتدلة وتجنب الجماعات المتطرفة.

ومع اقتراب نهاية العام 2024، شهد الدعم الدولي للنظام السوري تراجعًا ملحوظًا. وأعلنت روسيا عن عدم قدرتها على تقديم مزيد من الدعم العسكري للنظام في ظل تدهور الأوضاع الميدانية، فيما اكتفت إيران بإرسال مستشارين عسكريين دون تدخل مباشر، مما أظهر تراجع حلفاء النظام عن تقديم الدعم اللازم لبقائه.

وفي المقابل، ازداد زخم الدعم الدولي للمعارضة، وكثفت تركيا دعمها العسكري، وساهمت دول غربية وعربية في تعزيز قدرات الفصائل المعارضة، مما مهد الطريق لانهيار النظام السوري في ديسمبر 2024.

الميليشيات الموازية والحكومات البديلة: قراءة في التجربة السودانية في ضوء النماذج الإقليمية

تُعدّ السياقات التاريخية عاملًا أساسيًا في تطور الصراعات داخل الدول، إلى جانب موقع الدولة وارتباطها بمصالح الإقليم ودول الجوار، مما يحدد عوامل كثيرة، مثل دعم طرف على حساب الآخر. كما تساهم التركيبات المجتمعية المعقدة في تشكيل طبيعة الاستقطاب عند حدوث نزاع على السلطة. كل هذه العوامل تجعل من استقراء تطور الوضع السياسي والعسكري في السودان استنادًا إلى تجارب الدول الأخرى أمرًا يستوجب الكثير من الحرص والتمحيص. ولذلك، فإن الهدف من هذه الجزئية ليس التكهن بمآلات الصراع في السودان، وإنما ملاحظة أوجه التشابه لفهم مدى فرادة النموذج السوداني.

 

أزمة «الميليشيات الموازية» في السودان

تمثل الحرب الحالية في السودان امتدادًا لأزمة أوسع تُعرف باسم «الميليشيات الموازية»، وهي قوات عسكرية تسيطر على مساحات جغرافية واسعة في دول ذات كثافة سكانية مرتفعة، وتمتلك موارد اقتصادية وقدرات تسليحية تضاهي الجيوش التقليدية، بل تتفوق عليها أحيانًا في الكفاءة والإمكانات العسكرية. كما تدير هذه الميليشيات علاقات مع دول وفاعلين خارجيين، وتستخدم أساليب «حروب الاستنزاف الصغيرة» لضمان بقائها، مما يسهم في استمرار دوامة الفوضى. ويمكن ملاحظة هذا النموذج في عدة أمثلة إقليمية، مثل «جيش حفتر» و«قوات السراج» في ليبيا، وجماعة «الحوثي» في اليمن، و«الجيش الحر» في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، و«الحرس الثوري» في إيران، و«الدعم السريع» في السودان، وقوات «رياك مشار» في جنوب السودان، و«بوكو حرام» في نيجيريا، بالإضافة إلى «حركة الشباب» في الصومال.

كيف تنشأ الميليشيات الموازية؟

تنشأ الميليشيات الموازية في ظروف سياسية مختلفة؛ فبعضها يظهر بدعم الدولة للسيطرة على تمرد أو لحماية مصالح سياسية، كما هو الحال مع قوات الدعم السريع في السودان. فيما تنشأ أخرى نتيجة لتكتل مجموعات إثنية أو دينية بمعزل عن الدولة المركزية، مثل الحوثيين في اليمن و«حزب الله» في لبنان، وغالبًا ما تحظى هذه الجماعات بدعم خارجي. وأحياناً تبدأ هذه الميليشيات بوصفها قوات مساندة للجيوش النظامية، لكنها تنقلب عليها لاحقًا، بعد أن تتعاظم قوتها السياسية وتزداد مصالحها الاقتصادية، وبعد أن تصبح لديها علاقات خارجية منفصلة عن الدولة المركزية.

ذكرت دراسة صادرة عن «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في العام 2016، بعنوان «دوامة الفوضى.. انعكاسات الجيوش الموازية على الاستقرار في الشرق الأوسط»، أن «الجيوش الوطنية لم تعد المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية في بعض دول الإقليم، إذ شهدت السنوات الأخيرة تصاعد نفوذ الجيوش الموازية التي باتت تمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة، مما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية». ومع مرور الوقت، تتنامى لدى هذه الميليشيات أطماع في السلطة، مما يدفعها إلى الانقلاب على حلفائها في الحكومة المركزية.

أنماط الحكم في مناطق سيطرة الميليشيات

لفهم خصوصية الحالة السودانية، من المهم تحليل الاختلافات بين أشكال الانقسام العسكري في الدول. ويمكن تصنيف هذه النماذج إلى نوعين رئيسيين:

النموذج الأول: سلطة عسكرية تسيطر على مناطق دون تشكيل حكومة موازية

يتميز هذا النموذج بوجود قوة عسكرية متمردة تسيطر على مناطق واسعة دون أن تعلن عن تشكيل حكومة متكاملة، إذ تكتفي بفرض سلطتها العسكرية والإدارية، لكنها لا تنشئ مؤسسات دولة مثل الوزارات والنظام القضائي المستقل وأجهزة الشرطة.

ومن أبرز الأمثلة على هذا النموذج الحالة الليبية، إذ وسّع اللواء خليفة حفتر نفوذه العسكري والإداري، وعيّن مسؤولين في مناصب أمنية وعسكرية، لكنه لم يعلن عن حكومة بديلة، بل سمح لبعض وزارات حكومة الوفاق الوطني، مثل التعليم والصحة، بالعمل داخل مناطق سيطرته.

في السودان، كان هذا هو الوضع في مناطق سيطرة «الدعم السريع» قبل الإعلان عن الحكومة الموازية في نيروبي؛ فقد ظلت المرافق الصحية والمدارس تحت إدارة الوزارة الاتحادية، وجلَس طلاب بعض المناطق الخاضعة لسيطرة «الدعم السريع» لامتحانات الشهادة السودانية. ومع ذلك، كان واضحًا أن قوات الدعم السريع لم تكن تنوي الإبقاء على هذا النموذج لفترة طويلة، وهو ما تجلى في إعلانها عن تشكيل إدارة مدنية في ولاية الجزيرة في مارس 2024.

 

النموذج الثاني: سلطة عسكرية متمردة تعلن عن تشكيل حكومة موازية

في هذا النموذج، تعلن القوة المتمردة عن تشكيل حكومة تتولى إدارة مناطق سيطرتها بالكامل، وتعمل على بناء مؤسسات بديلة للدولة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك النموذج اليمني، إذ أعلنت جماعة أنصار الله الحوثيين في أغسطس 2024 عن تشكيل حكومة جديدة تدير العاصمة صنعاء ومناطق سيطرتها.

ويُعد هذا النموذج الأكثر شبهًا للحالة السودانية، لكن ما يميزه أن الحوثيين استغرقوا تسع سنوات (من 2015 إلى 2024) قبل الإعلان عن حكومتهم، فيما خطت قوات الدعم السريع هذه الخطوة في أقل من عامين منذ بدء الحرب. وهنا يبرز سؤال مهم: هل يمكن لعامل الزمن أن يؤثر في مدى فاعلية هذه الحكومة واستمراريتها؟

 

التحدي الأكبر: الاعتراف الدولي بالحكومة الموازية

من العوامل الحاسمة في نجاح  الحكومة الموازية أو فشلها مدى قدرتها على كسب الاعتراف الدولي والدعم الإقليمي. وفي حالة السودان، سعت قوات الدعم السريع، على نحو مكثف، خلال العامين الماضيين، لتبرير موقفها أمام المجتمع الدولي، وحاولت نفي مسؤوليتها عن الانتهاكات ضد المدنيين، بل قدمت نفسها كقوة تعمل لمصلحة المواطن. وظهر هذا التوجه، بوضوح، في رسالة قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» إلى الوسطاء والشركاء الدوليين، خلال محادثات جنيف، في أغسطس 2024، إذ التزم بفرض توجيهات صارمة لحماية المدنيين.

وعلى هذه الجهود، واجه إعلان الحكومة الموازية موجة رفض دولية من عدة دول، مثل قطر ومصر والسعودية، ومنظمات إقليمية مثل الاتحاد الإفريقي ومجلس السلم والأمن الإفريقي. ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن هذه الحكومة قد تجد قبولًا من دول، مثل أوغندا وإثيوبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، أو حتى جنوب السودان وكينيا التي استضافت فعاليات التوقيع على الميثاق السياسي للأطراف المكونة للحكومة.

وعلى النقيض من ذلك، لم يسعَ الحوثيون، عند إعلانهم عن حكومتهم في 2024، إلى كسب الاعتراف الدولي، بل اعتمدوا على بناء تحالفات إقليمية قوية. كما أن مواقفهم المرتبطة بالحرب الدائرة في غزة وهجماتهم على السفن الأمريكية وقطع الطرق التجارية البحرية، لا تشير إلا وجود توجه قريب إلى اتخاذ خطوات يمكن أن تساهم في الاعتراف بحكومتهم لدى الجهات الدولية.

 

مستقبل الحكومة الموازية في السودان: بين الاستمرار والانهيار

أمام الحكومة الموازية التي تسعى قوات الدعم السريع إلى تشكيلها خياران:

  1. مواصلة السعي لكسب الدعم الدولي، مع أن المؤشرات الآنية لا تبدو مبشرة في هذا الصدد.
  2. اتباع نهج الحوثيين عبر بناء تحالفات إقليمية قوية، تضمن لها الدعم المستمر، سواء عسكريًا أو ماليًا، أو من خلال تسهيل حركة التجارة والتمويل.

ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن لقوات الدعم السريع أن تحقق استدامة لحكومتها الموازية أم أنها ستواجه التحديات نفسها التي واجهت التجارب المماثلة في الإقليم؟

تقارير سوداليتيكا

مشاركة التقرير

البريــد الإلكتروني

© 2022 Beam Reports. created with PRIVILEGE