مقدمة
شهد السودان سلسلة من الصراعات على مدى العقود الماضية، لكن الحرب الحالية التي اندلعت في أبريل 2023، هي أحد أكثر الصراعات عنفًا وتعقيدًا في تاريخ البلاد الحديث. بدأت هذه الحرب بعد توترات طويلة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات «الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو «حميدتي». هذا الصراع ليس وليد اللحظة، بل له جذور عميقة مرتبطة بالتحولات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير في العام 2019.
في منتصف أبريل 2023، اندلعت الاشتباكات بين الجيش وقوات «الدعم السريع» في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى. بدأت المعارك حول مواقع إستراتيجية، مثل القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي ومقر القيادة العامة، للسيطرة عليها، وسرعان ما امتدت إلى مناطق أخرى في البلاد. تفاقمت الأوضاع بسرعة، وسط اتهامات متبادلة بين الطرفين بشأن مسؤولية بدء النزاع. وعلى محاولات التهدئة والهدن المتعددة بين الطرفين إلا أنّ الوضع الأمني والإنساني ظل يتدهور في البلاد.
تُعدّ الحروب ساحة صراع معقدة تتنوع فيها الوسائل والأساليب، يسعى كل طرف فيها لتحقيق أهدافه متخذًا إستراتيجيات متعددة لإدارة المعارك، وتُستخدم فيها الخدع العسكرية جنبًا إلى جنب مع الترسانة الحربية والآلة الإعلامية.
يهدف هذا التقرير إلى التعرف على أساليب الخداع العسكري، وكيف تداولت مصطلحاته من قِبل الجمهور السوداني.
يستخدم التقرير المصادر المفتوحة للتعرف إلى كيفية استقبال المدنيين المصطلحات المرتبطة بأساليب الخداع العسكري وتداولها في سياق حرب السودان. ومتخذةً انسحاب الجيش السوداني من مدينة «ود مدني» بولاية الجزيرة «دراسة حالة»، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل كيفية استقبال المدنيين لهذا الحدث وتفسيرهم له؛ إذ انتشرت على نطاق واسع تفسيرات تصف ما حدث بأنه «انسحاب تكتيكي» أو «خدعة عسكرية» مقصودة من الجيش. ومع أنّ هذه المصطلحات قد تُستخدم في أحيان كثيرة على نحوٍ غير دقيق، إلا أنّ انتشارها وسط المدنيين يُظهر درجة تأثير الحرب الإعلامية في فهم مجريات الأحداث، إذ يعمق هذا الخلط في المصطلحات المفاهيمية حالة الارتباك والتشويش في الصراع.
الخداع العسكري: تعريفه وأهدافه ووظائفه
«كل الحروب تقوم على الخداع» صن تزو – «فن الحرب».
في مسرح المعركة الذي لا يظهر على الخرائط، لا تُصمّم الإستراتيجيات على أساس قوة الأسلحة بل مدى قدرة العقل على التلاعب بالمعلومات والتظاهر بخلاف الواقع؛ إذ تُقلب الحقائق، وتُزرع الشكوك في أذهان الأعداء قبل أن يُرفع الستار عن الواقع. ويتحول الصراع إلى «رقصة خفية من الخداع والتضليل»، تكون فيه القدرة على الخداع أقوى من الرصاص.
وفقًا للوثيقة «JP 3-13.4» الصادرة عن هيئة الأركان المشتركة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية يُعرف «الخداع العسكري» (MILDEC) بأنه مجموعة من الإجراءات التي تُنفَّذ على نحوٍ متعمد لتضليل صُنَّاع القرار في القوات العسكرية أو شبه العسكرية أو المنظمات المتطرفة العنيفة، مما يدفع العدو إلى اتخاذ إجراءات معينة (أو الامتناع عن اتخاذها) تسهم في تحقيق المهمة الموكلة إلى القوات الصديقة.
وحددت الوثيقة الأمريكية هدف الخداع العسكري بأنه تصور القائد للأغراض المحددة التي يسعى إلى تحقيقها من خلال عمليات الخداع، وكيفية مساهمتها في إنجاز المهمة الموكلة إليه. في هذه الإستراتيجية، يتعين على القائد أولًا أن يتصور هدف الخداع بدقة، مع التركيز على كيفية تأثيره في تحقيق الهدف الرئيسي للمهمة.
تتجلى وظيفة الخداع العسكري في عدة جوانب إستراتيجية تسعى إلى تحقيق تأثيرات محددة في العدو. إذ يسعى الخداع إلى إثارة الغموض والارتباك بشأن المعلومات الحساسة التي يمتلكها العدو عن القوات الصديقة، بما يزعزع تصورات العدو ويشوش على قدرته على اتخاذ قرارات دقيقة. يهدف الخداع العسكري أيضًا إلى توجيه العدو نحو توظيف غير فعال لموارده البشرية والمالية من خلال التلاعب بالمعلومات، كما يسعى إلى كشف نقاط قوة العدو وتحركاته المستقبلية. عندما ينكشف العدو، بفضل الخداع، فإنّ ذلك يتيح للقوات الصديقة جمع معلومات حيوية يمكن استخدامها لمصلحتها. وكذلك يُمكّن الخداع العسكري من توجيه العدو نحو سلوكيات غير متوقعة، مما يؤدي إلى تصورات خاطئة يمكن للقوات الصديقة استغلالها لتحقيق أهدافها الإستراتيجية. أخيرًا يعمل الخداع العسكري على إهدار قوة العدو القتالية من خلال دفعه إلى اتخاذ «إجراءات غير ملائمة أو متأخرة».
أساليب الخداع العسكري
هو عملية تهدف إلى صرف انتباه قوات العدو بعيدًا من الهدف الرئيسي للعملية العسكرية. في أغلب الأحيان يكون الهدف هو دفع العدو إلى تركيز موارده في وقت ومكان يكونان ملائمين للأهداف الصديقة، كما حدث في عملية «هيدرا» التي نفذتها القوات الجوية البريطانية، في أغسطس 1943، في بلدة ألمانية على بحر البلطيق.
- تشتيت الانتباه:
هو عملية تهدف إلى صرف انتباه قوات العدو بعيدًا من الهدف الرئيسي للعملية العسكرية. في أغلب الأحيان يكون الهدف هو دفع العدو إلى تركيز موارده في وقت ومكان يكونان ملائمين للأهداف الصديقة، كما حدث في عملية «هيدرا» التي نفذتها القوات الجوية البريطانية، في أغسطس 1943، في بلدة ألمانية على بحر البلطيق.
- التمويه:
التمويه هو إجراء هجومي يتضمن احتكاك مباشر بالعدو يهدف إلى تضليله بشأن موقع و/ أو توقيت الهجوم الرئيسي الفعلي، مثلما حدث في هجوم الجيش الألماني على فرنسا في مايو 1940، بالتزامن مع هجومٍ تمويهيّ على هولندا وبلجيكا، يهدف إلى إخفاء الهدف الرئيسي لألمانيا عن القادة العسكريين البريطانيين والفرنسيين.
- الاستعراض العسكري:
يُقصد بـ«الاستعراض العسكري» إظهار القوة لجذب انتباه العدو دون اتصال مباشر به. ويُنفذ في منطقة لا يُراد اتخاذ قرار فيها، بهدف خداع العدو، مثل ما جرى في «حملة شبه الجزيرة» خلال الحرب الأهلية الأمريكية.
- الحيلة والخداع:
هو إجراء مصمم لخداع العدو، يتضمن عادةً الكشف المتعمد عن معلومات كاذبة لنظام جمع المعلومات الخاص بالعدو. كما حدث في أبريل 1943 في عملية «اللحم المفروم» التي نفذها «الحلفاء» خلال الحرب العالمية الثانية.
- الخدع البصرية:
«الخدع البصرية» تصويرٌ ثابتٌ لنشاط أو قوة أو معدات بهدف خداع ملاحظة العدو البصرية، مثل ما استخدمه «الحلفاء» خلال الحرب العالمية الثانية.
الخداع العسكري في حرب السودان
لا يمكن الجزم بأنّ حرب السودان شهدت عملية عسكرية متكاملة يمكن أن تُعدّ «خداعًا عسكريًا»، وذلك لعدم توفر إفادات أو تصريحات رسميّة من طرفي الحرب بشأن تفاصيل عملياتهما العسكرية. بالإضافة إلى أنّ «الحرب الإعلامية» المستعرة بين الجانبين ساهمت في طمس الحقائق، إذ تعتمد الأطراف المتنازعة على التلاعب بالمعلومات وتوجيهها بما يخدم مصلحتها، مما يجعل من الصعب التحقق من مدى صحة تنفيذ مثل هذه العمليات. في ظل هذا الغموض، يبقى استخدام أساليب الخداع العسكري واردًا ضمن الإستراتيجيات العسكرية لتغيير مجريات الأحداث على الأرض.
استخدمت مصطلحات أساليب الخداع العسكري، مثل «الانسحاب التكتيكي»، على نحوٍ متكرر، من قبل المدنيين، خلال محطات مختلفة من الحرب في السودان، إلا أنّ هذه المصطلحات غالبًا ما وُضعت في غير سياقها الصحيح أو اُستخدمت استخدامًا غير دقيق في كثير من الأحيان. إن خلط المفاهيم والمصطلحات يعمق من حالة الالتباس، ويشوه الحقائق، مما يُصعّب على المدنيين استيعاب مجريات الأمور.
يُعرف «الانسحاب التكتيكي» بأنه عملية تراجعية مخطط لها، تقوم فيها القوة العسكرية، وهي على اتصال بقوة معادية، بفض الاشتباك والتحرك في اتجاه بعيد من العدو. قد ينفذ القائد عملية الانسحاب تحت ضغط العدو أو قد لا ينفذها. وقد تنسحب الوحدات التابعة دون انسحاب القوة بأكملها. فيما يقول فيليب ليونج، وهو خبير عسكري وجندي أمريكي سابق، إن الانسحاب التكتيكي هو انسحاب يسمح للعدو بالتقدم مع إمكانية نصب كمين، أو في حالة العلم بعدم القدرة على صد الهجوم، سواء كان لنقصٍ في الإمدادات أو أيّ سبب آخر.
مدينة «ود مدني» نموذجًا
انطلقت الرصاصات الأولى في ولاية الجزيرة صبيحة الخميس الموافق 14 ديسمبر 2023 في قرية «أبو قوتة» الصغيرة شمال غرب ولاية الجزيرة، ليُسمع صداها في «ود مدني» و«رفاعة» الجمعة، فنقلت بذلك قوات «الدعم السريع» الحرب إلى الولاية المجاورة للخرطوم على متن عربات الدفع الرباعي، معلنةً عن ميلاد مأساة جديدة. وانتقل الصراع في اليوم التالي إلى شرق «ود مدني».
شهدت ليلة الأحد الموافق 17 ديسمبر 2023 اشتباكات بين الطرفين وانتشار قواتهما في أنحاء متفرقة من القرى المجاورة لـ«ود مدني». ومع أنّ «ود مدني» تنفست الصعداء، وحظيت بليلة هادئة على وقع أنباء انتصار الجيش في معركة الليلة الثانية من هجوم «الدعم السريع»؛ إذ تواردت الأنباء، منذ عصر الأحد، عن تراجع قوات «الدعم السريع» من المدينة، إلا أنّ الاشتباكات عادت، مع طلوع فجر الاثنين، إلى منطقة «حنتوب» شرقي «ود مدني». وأعلنت «الدعم السريع» سيطرتها على رئاسة اللواء الأول مشاة التابع للفرقة الأولى، ومعسكر «الاحتياطي المركزي» بالقرب من جسر «حنتوب».
وبعد ساعات، تواردت الأنباء عن انسحاب الجيش من مدينة «ود مدني» ومنطقة «حنتوب» بالكامل، لتدخل ولاية الجزيرة في عداد الولايات الواقعة تحت سيطرة «الدعم السريع» ووطأة انتهاكاتها المتواصلة.
بتاريخ 19 ديسمبر 2023، أقرّ مكتب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية، في تعميم صحفي، بانسحاب قوات رئاسة الفرقة الأولى من مدينة «ود مدني»، وأعلن عن فتح تحقيق في «الأسباب والملابسات التي أدت إلى انسحاب القوات من مواقعها». ووعَد الجيشُ، في تعميمه، بـ«تمليك الحقائق للرأي العام» بعد رفع نتائج التحقيق إلى «جهات الاختصاص». ومع ذلك لم يشِر تعميم الجيش إلى أنّ الانسحاب الذي نفذته قوات فرقته الأولى من «ود مدني» كان «انسحابًا تكتيكيًا».
تحليل تداول مصطلح «الانسحاب التكتيكي» على «فيسبوك» في سياق انسحاب الجيش من «ود مدني»
رصد فريق «بيم ريبورتس» منصة «فيسبوك»، في الفترة من 13 إلى 31 ديسمبر 2023، باستخدام الكلمات المفتاحية «سقوط مدني، وانسحاب تكتيكي مدني، وانسحاب الجيش»، وذلك لمعرفة مدى تداول مصطلح «الانسحاب التكتيكي» وسياقات تداوله من قِبل الجمهور. وتوصل «فريق بيم» إلى أربعة مواضع استخدم فيها المصطلح، وهي:
- السخرية:
استخدمت بعض الحسابات مصطلح «الانسحاب التكتيكي» للسخرية من انسحاب الجيش من مقر قيادة الفرقة ومن «ود مدني»، وحاولت ربطَه بانسحاباتٍ سابقة للجيش من مواقع أخرى، مشيرةً إلى أن هذه الانسحابات المتكررة «دليل هزيمة» أو «هروب من المعركة». وفي الغالب كان متداولو هذا النمط منتمين إلى «الدعم السريع» أو موالين لها. لاحظ الصور (4) و(5) و(6). فيما تُداول مقطع صوتي نشرته صحيفة «الجريدة» السودانية يحوي سخرية، باستخدام مصطلح «انسحاب تكتيكي»، من قائد كتيبة «البراء بن مالك» التي تقاتل إلى جانب الجيش.
- النقد والعتاب:
ذُكر مصطلح «انسحاب تكتيكي» أيضًا ضمن منشورات تنتقد قادة القوات المسلحة، وترفض استخدام المصطلح لتبرير انسحاب الجيش من «ود مدني»، وتعاتب الجيش على الخطوة. وهنا فُسّر المصطلح من قبل الجمهور على أنه ذريعة يقدمها قادة الجيش والموالون لهم لتبرير انسحاباتِهم المتكررة. كما في الصور (7) و(8) و(9).
ما يجب الإشارة إليه، مرةً أخرى، هو أن استخدام مصطلح «الانسحاب التكتيكي» خرج عن سياقه العسكري، واستغل في تبرير انسحابات غير مدروسة أو في السخرية من العدو. قد يلجأ الجمهور، خصوصًا في الأوقات الحرجة مثل الحروب، إلى استخدام مثل هذه المصطلحات في محاولة لتخفيف وقع الأحداث السلبية عليهم، مما يساهم في انتشار معلومات مضللة أو تبريرات واهية للأحداث. وقد يؤدي الاستخدام المفرط أو غير المناسب لهذه المصطلحات إلى تشويش الصورة العامة عن الواقع العسكريّ على الأرض، ويمنح الجمهور شعورًا زائفًا بأن الأمور تحت السيطرة، في حين أن الوضع الحقيقي قد يكون مختلفًا تمامًا. كل هذا يأتي في إطار إدارة السردية العامة بشأن الحرب. فالمصطلحات تُستخدم لتحويل مسار الحوار العام، مما يخفف من الأثر النفسيّ والرمزيّ للهزيمة.
إن استخدام المصطلحات في غير موضعها يُعدّ شكلًا من أشكال تقنين الصور النمطية، ويساهم في تقويض استيعاب الجمهور للحقائق، مما يدفعهم إلى استخدامها على نحو خاطئ، بوعي أو دون وعي، ويُشوّش -في المحصلة- فهمهم للواقع، ويعزز حالة الارتباك والغموض. هذا التشويه للمفاهيم يعمّق حالة الفوضى، فيما يُسحق الواقع تحت وطأة حرب إعلامية شرسة، لا تعرف سوى التلاعب والخداع لتحقيق الانتصار بأيّ ثمن.
أُعدّ هذا التقرير بالتعاون مع «كود فور أفريكا» (Code for Africa)، من خلال زمالة AAOSI، وهي مبادرة تعاونية تهدف إلى تمكين المنصات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية في الدول الإفريقية من مكافحة الشائعات والدعاية التضليلية من خلال دورات تدريبية وموارد أخرى، بهدف تعزيز صحة المعلومات ودعم التعاون بين المحققين في المنطقة الأفريقية.